يواصل الروائي البرتغالي الشهير باولو كويلو في روايته هذه رحلاته الصوفية في أعماق الروح والنفس، وفي رحلته تتدفق شلالات من الأفكار الفلسفية العميقة، شغلت الإنسانية على مدى التاريخ والجغرافيا، كيف أن هاجسا ينتصب فجأة في مواجهة إنسان، ويسيطر على مسار حياته، ويتحول إلى هاجس يشغله ليل نهار؟ وكيف أن الحرب وحدها تعري مشاعر الإنسانية الخبيئة، بل تصل بها إلى أبعد مدى، وكيف أن مجموعة من القيم الموروثة يؤمن بها الإنسان تستعيده، فيكرس نفسه وماله، وما ليس له في سبيلها، وتصبح هي مبرر استمراره وكفاحه، ولا يعود بإمكانه التوقف ليسأل: هل يشعر بالسعادة أم لا.
وتبدأ أحداث الرواية بكاتب شهير تهجره زوجته بدون أن تترك أثرا أو تعطيه أي مبررات لهجرانها إياه، وتتركه في متاهة تجعله فيها يبحث عنها من أوروبا إلى شرق آسيا مرورا على الهضاب والصحارى وعبر سجل من الأفكار والذكريات عن تلك المرأة التي كانت سببا في نجاحه وأعطت معنى لحياته دون غيرها من النساء اللاتي لن يقدمن له مثل ما قدمت أستير.
أستير هي مراسلة حرب، وهي في الثلاثين من العمر، متزوجة لا أولاد لها، و هو رجل كهل كثير المغامرات العاطفية والزيجات، وكان راضيا بحياته معها رغم الخلافات التي كانت بينه وبينها لأنه معترف بأن الإحباطات في علاقاته السابقة ليست بسبب المرأة التي تكون معه بل بسبب مراراته، وهي الوحيدة التي فهمت أمرا واحدا في غاية البساطة، لكي يتمكن من إيجادها عليه إيجاد نفسه أولا، و بقي معها ثماني سنوات، وهو على ثقة بأنها حب حياته، ومع أنه أحيانا يغرم بنساء أخريات يعبرن طريقه فهو لا يفكر أبدا في احتمال الطلاق.
وفي أثناء هذه الأزمة التي كان يمر بها كان دائما ومجددا في حفلات توقيع كتبه، وقبول الدعوات لإلقاء المحاضرات، وكتابة المقالات، وحضور حفلات العشاء الخيرية، والظهور في البرامج التلفزيونية، والمساعدة في مشروعات الفنانين، وكل شيء باستثناء تأليف كتاب كان بصدد البدء فيه، لأنه كان مؤمنا في صميم قلبه بأن مهنته ككاتب انتهت لأن المرأة التي حثته على البدء لم يعد لها أثر.
الرواية تصور قيمة الشيء التي لا يمكن اكتشافها إلا بعد فقدانه لأي من الأسباب، قد تكون الثقة في النفس المفرطة التي تودي إلى الغرور، قد تكون الانشغالات وكثرتها وقد تكون اعتقادنا بأن ذلك الشخص لا يعني لنا شيئا، ونكون بذلك ظلمنا أنفسنا عند فقدانه وظلمناه هو قبل فقدانه.
وتبدأ رحلة الرجل الذي على قدر ما كان مستهترا بحياته مع زوجته، ولم يكن يحملها على محمل الجد، صارت تمثل بالنسبة له ما يسمى الزهير، وهو عنوان هذه الرواية، وبعد سنة من بداية مأساته يستيقظ الكاتب وفي خاطره قصة كتبها "خورخيه لويس بورخس" عن شيء ما إن تأتي على لمسه أو رؤيته حتى تعجز عن نسيانه، و يبدأ تدريجيا بملء تفكيرك إلى حد الجنون.
عند فقدانه لأستير كان الزهير كانت بداية التفكير فيه مزعجة أو بعطف، ظل ينمو في روحه إلى حد أنه تقبله و تركه يحمله إما إلى القدسية أو الجنون، و ابتدأ رحلة البحث عن أستير في كل امرأة يصادفها لدرجة أنه في كثير من الأحيان يأمر سائق التاكسي بالتوقف في الشارع للحاق بإحداهن حتى يتمكن من الاقتناع بأن ذلك الشخص ليس هو من يبحث عنه.
تأخذه معاناته إلى البحث والتنازل من أجل العثور عليها، تنازل عن كرامته كما يرى في البحث عنها بالسؤال وراء الرجل الذي كان يظن أن زوجته تعاشره من أجل أن يدله على مكان اختفائها، كان المهم لديه العثور عليها بأي ثمن، وبدون أن يحاسبها على ما يمكن أن تكون فعلته في غيابها عنه، وصار ينتقل من مكان إلى مكان وهاجس الزهير يراوده ولا يفارقه.
وفجأة وبدخوله إحدى الكاتدرائيات متفحصا أعمال الترميم فيها يدرك أمرا شديد الأهمية فيقول: "الكاتدرائية هي أنا هي نحن كلنا، كلنا نكبر وتتغير أشكالنا نلاحظ بعض نقاط الضعف التي يجب تلافيها ولا نختار الحل الأفضل دوما لكننا نمضي غير آبهين محاولين البقاء بأنفة واحترام وإجلالا لنا وراء الجدران، إنه الحيز الفـارغ فينا حيث إننا نعبـد ونجل الأغلى والأهم لنا".
بعد ذلك وفي طريقه إلى باريس يدخل في حالة ارتعاش لا يفكر، يركز فقط على الازدحام وعند دخوله المنزل يطلب من الخادمة ألا تُدخل أحدا، و يطلب منها المبيت خمس ليال لإعداد وجبات الفطور والغداء والعشاء، ويفصل الهاتف ويضع الجوال في علبة ويرسله إلى ناشره، سبعة أيام وهو يمشي على نهر السين كل صباح وعند رجوعه ينزوي متأملا كما لو كان ينصت إلى ملاك يكتب كتابا أو بالأحرى رسالة طويلة إلى امرأة أحلامه قد يبلغ هذا الكتب يديها، وحتى لو لم يحصل ذلك فالأهم هو أنه في سلام مع روحه ولم يعد يصارع كبرياءه.
كتابه الذي يحمل اسم "للتمزيق وقت وللتخييط وقت" لاقى شعبية كبيرة، و يستخلص من هذا الكتاب أنه لا يلقي اللوم على زوجته السابقة وعلى نفسه، لقد تعلم ألا يهدر وقته في فعل ذلك.
وبينما هو في حفل توقيع كتابه " للتمزيق وقت وللتخييط وقت" يأتي إليه في آخر الحفل رجل يعرفه ولكنه لم يره من قبل، كان اسمه ميخائيل، لم يتفوه بكلمة ولا حركة فجائية خوفا من أن يرتبك الرجل أو يهرب لأنه هو الوحيد من لديه الخلاص من زهيره، والوحيد الذي يعرف أين يجدها ويتمكن أخيرا من طرح الأسئلة التي كانت تتكرر.
بعد مرافقته لميخائيل أياما عدة ومروره بصراع وتعرضه لحادث أدخله المستشفى قرر أخيرا السفر إلى كزاخستان، حيث توجد زوجته حسب ما وصل إليه من معلومات وكان بحاجة لأن يكون معه ميخائيل، باعتباره من تلك البلاد بالرغم من أنه كان معترضا على ذلك، سأله ميخائيل عن السبب الذي دفعه إلى تغيير رأيه فأجابه قائلا: "مذ قابلتك وأنا أتبع دربا نسيته منذ زمن بعيد، خط سكة حديد مهجور حيث ينبت العشب بين السكك، لكن السكة لاتزال قابلة للاستعمال، لم أبلغ بعد المحطة الأخيرة لذلك لا سبيل للتوقف وأنا في طريقي".
وتبدأ رحلة البحث مع ميخائيل، رحلة مع شخص مفروض عليه أن يتعرف من خلالها على أناس لم يكن يتخيل في يوم من الأيام حتى أنهم موجودون على البسيطة، وهي جماعة غريمه ميخائيل كما كان يظن.
خلال رحلته في البحث عن أستير اكتشف أنه كان بعيدا كل البعد عن زوجته بينما كانت هي تفكر في الآخرين، تفكر في ضحايا الحرب، تفكر في مدى تفاهة حياتها وأن حياته ليس لها معنى، بينما كان هو يتمتع بنجاحه وثروته وشغله الشاغل في كيفية صرف أمواله على شتى متع الحياة.
ثمة عبارة تعبر عن خلاصات توصل إليها المؤلف، عندما تراود كل واحد فينا أسئلة كونية ووجودية، "نجيب السهوب بصوت الريح الثابت وهو كافٍ لمعرفة أننا لم نلق يوما إجابات عن الأسئلة الحياتية الجوهرية، ولكننا مع ذلك نمضي قدما".
كما يشير إلى حيلة يمكن أن يعتقدها أي شخص أرهقته الحياة وهو يفكر في معاناته، وهي كيفية الذوبان في الظروف مهما كانت سيئة وتجنب التفكير في ما يقابله، حتى يتمكن الواحد منا من العيش في مصالحة وسلام مع نفسه، لأن الظروف قد تفرض علينا عدم التفكير في البديل.
إن هذه الرحلة عبارة عن مجموعة من التناقضات الداخلية، وسفر عبر حياة شخص تعرض لألم جعله يعيد التفكير فيما مضى ويراجع حساباته، ويكتشف أخيرا أن ما كان واقعا ولم يحافظ عليه ولم يول له انتباها صار حلما، بل "زهير" حلم يتبع خطاه في سبيل الوصول إليه، يجعله يقوم برحلة بعيدة في الزمن والمسافات، وحتى الأفكار، رحلة إلى كزاخستان، رحلة شاقة ومرهقة تكفر عن أي ذنب اقترفه في حق تلك المرأة التي تركته.
وفي خطوات تبعده عن زوجته وباتجاه منزلها يمر شريط حياته بذهنه، مفكرا فيما سيقوله لها وكيف ستكون ردة فعلها عند رؤيته، وفجأة بعد فتحه باب غرفتها ينظر إليها بتمعن، يكتشف أنها كانت على تواصل معه ومواصلة رحلتها معه باتجاه الشهرة والمجد وتفكر فيه كما كان طوال الوقت، ممسكة بكتابه "للتمزيق وقت وللتخييط وقت" الذي كان آخر إصداراته ونجاحاته، وهي تقرؤه لتلاميذها الذين كانت تدرسهم في منزلها.
يمكن للإنسان أن يصدق ما يريد تصديقه، ولكنه لن يستمر في خداع نفسه، أو لن يصل إلى الرضا والسعادة التي ينشدها، فهي تتحق برؤية الأشياء وفهمها كما هي، والتمكن من الرؤية، وإدراك أنك لا ترى الحقيقة، حتى تبحث عنها، تحتاج لفقد الأشياء لتفهم أن طعم الأشياء المستردة ألذ وأطيب.
حتى تحب يجب أن تفتح النوافذ والأبواب، وعندما فعلتُ ذلك حملت الريح كل شيء معها، أردت التشبث بذكرياتي، حماية لما اعتقدت أنني جهدت لبلوغه، غير أن كل شيء قد اختفى، وبت فارغا كفراغ السهوب، وربما لهذا السبب اختارت أستير المجيء إلى بلاد السهوب، ولهذا السبب بالضبط، لأني فرغت من كل شيء حملت الريح معها أشياء جديدة، ضوضاء لم أسمعها قط، أشخاصا لم أتحدث إليهم قط، استعدت حماستي القديمة، لأنني تأخرت من تاريخي الخاص، دمرت التخلي، واكتشفت أني ذو قدرة على مباركة الآخرين، تماما كالرحالة والسحرة في السهوب، اكتشفت أنني أفضل حالا بكثير، وأنني أتمتع بقدرة أكبر بكثير مما تصورت، العمر يبطئ خطى أولئك الذين لم يملكوا الشجاعة يوما للسير على وتيرتهم الخاصة.
ربما خسرت المرأة التي أحبها، ولكن أدركت أنه لا بد لي من محاولة الاستمتاع بكل النعم التي أنعمها الله بها علي، لا يمكن ادخار النعمة، ما من مصارف أودعها تلك النعم لأستخدمها لاحقا حينما أشعر بسلام أكبر مع نفسي، وإذا لم أستثمر هذه البركات حتى نهايتها فسوف أخسرها إلى الأبد.