بسم الله الرحمن الرحيم
إن الأخطار الفادحة التي أفرزتها وتفرزها الهجمة الأمريكية الشرسة على عالم العرب والمسلمين جسدت حقيقة واضحة الأبعاد، والمعالم صارت تفرض نفسها على واقعنا وأحوالنا على مستوى البشر كشعوب وحكام، وعلى مستوى الأوطان كأرض وديار، وعلى مستوى الإسلام كعقيدة وشريعة ومنهج حياة، وعلى مستوى العادات والتقاليد والقيم التي رسخها وعمقها الإسلام مفاهيم في الوجدان والأذهان وفي أعماق القلوب والنفوس، وعلى الجوارح، سلوكيات وأقوال وأفعال، وعلى السياسات والتوجهات، وعلى مستوى الدور الحضاري الرائد الذي هيأ الإسلام الأمة له، وكلفها أداءه والقيام به، وربط هدف وجودها وغايته بالنهوض به والسعي لإنجازه.
الأمريكيون المسئولون لم يخفوا أو يواروا أهدافهم وغاياتهم من وراء هجمتهم الشرسة على عالم العرب والمسلمين، والتي حشدوا فيها جيوشهم الجرارة وأعتى أسلحتهم وأكثرها تدميرًا وتخريبًا وفتكًا بالمسلمين وبديار المسلمين، فقد أعلنوا ولا يفتأون يعلنون أنهم يستهدفون الإنسان والديار بالتدمير، والعقيدة والأصالة بالتغيير والتبديل، والثروات والموارد بالاستيلاء عليها، وتسخيرها لخدمة وإنعاش وتقدم اقتصادهم وتحقيق رفاهيتهم.
كما أعلنوا ولا يفتأون يعلنون بعد أن دمروا أفغانستان، وزرعوها بقوات وأسلحة الاحتلال، وبعد أن غزوا العراق وخربوا قراه ومدنه، واحتلوه بالآلاف من الجنود، أنهم ماضون على نفس الطريق؛ ليجتاحوا كافة بلاد العرب والمسلمين مدمرين قراها ومدنها، مستهدفين عقيدتها وأصالتها، واضعين اليد على الثروات والموارد، مغيرين الحكام والمسئولين بمسئولين أمريكيين، في تشكيل وترتيب للبيت العربي والإسلامي في إطار جديد وشكل جديد، يكون فيه العرب هم الأتباع والمنقادون والعاملون، ويكون الكيان الصهيونى هو صاحب التفوق، والتوجيه والإدارة، والذي يجني الثمار.
حقيقة الأخطار الأمريكية الهائلة التي أصبحت تهدد العرب والمسلمين حكامًا وشعوبًا أرضًا وأوطانًا، صارت أكثر وضوحًا، وملموسة اكتوى ملايين من العرب والمسلمين بنيران صواريخها وقنابلها وأحدث أفتك أسلحتها أمس واليوم، وصارت على وشك أن تُكوى أجساد الملايين الآخرين منهم في الغد إن لم يتحرك كل العرب والمسلمين، على كافة المستويات، شعوبًا وحكامًا، ليواجهوا الأخطار، ويردعوا العدوان، ويتصدوا للهجمة، وهم ولا شك قادرون، إن أصلحوا وعدلوا في السياسات والتوجهات، وأعادوا حساب وتوظيف ما يملكون من طاقات وإمكانات وقد حباهم الله بالكثير، كما رسم لهم الطريق حين قال -عز وجل- : ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية11) ووضح لهم الرسول -عليه الصلاة والسلام- المعالم والأبعاد، ووضع العلامات على الطريق، حين قال: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لا تضلوا بعدي أبدًا، كتاب الله وسنتي"
صحيح أن أمريكا بجيوشها الجرارة وكافة أسلحة الدمار الشامل التي سلطتها على الأبرياء، اجتاحت واحتلت أفغانستان واجتاحت واحتلت العراق، ووضعت يدها على الثروات، ومن خلال جيوش الاحتلال اعتمدت القهر واسترخاص أرواح العرب والمسلمين سبيلاً لدفع الناس للرضوخ والاستسلام وصرفها عن النهوض بحقها في اختيار حكامها ومسئوليها، كما لجأت إلى المنظمات الدولية لاستصدار قرارات تشرع فيها الاحتلال، ومصادرة الثروات، ومنها قرار مجلس الأمن الأخير الذي تُحاول أمريكا من ورائه إضفاء الشرعية على احتلالها للعراق، واستيلائها على بتروله وثرواته.
وفي الوقت نفسه لجأت إلى أسلوب الاحتيال والتحايل لتفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها، بطرح مشروعات لا تحوي ولا تقدم غير الوهم كخطة الطريق، بينما يواصل الكيان الصهيوني حصد أرواح أبناء الشعب الفلسطيني الشقيق من خلال عمليات الاجتياح المستمرة وتدمير البيوت والمزروعات، مع إحكام الإغلاق والحصار حول مدنهم وقراهم؛ لدفع شعب بأسره على هجرة أرضه.
**حقيقة وحقائق
إلا أنه في الجهة المقابلة أبانت الهجمة الأمريكية عن أكثر من حقيقة صارت تفرض نفسها على ساحة العرب والمسلمين، تُمثل أكثر من إشارة، بل ودلالة على أن الأمة تملك مقومات النهوض، ومقومات المواجهة والصمود، وأيضًا مقومات رد العدوان وتحقيق الانتصار لو خَلُصَت النوايا، وتم تعديل وتصحيح المسار، ومن تلك الحقائق:
• أن تندلع مظاهرات في كابول رغم الاحتلال الأمريكي الجاثم على أرضها، تطالب بجلاء المحتلين مؤكدة العزم على تحرير الإرادة وتحقيق الأمن والحرية، والإصرار على نهوض الشعب بحقه في اختيار حكامه ومسئوليه.
• أن تندلع في بغداد ومدن العراق مظاهرات تؤكد على هوية العراق، ووحدة صفه وكلمته، مطالبة بجلاء المحتل الأمريكي، رافضة فرض حاكم أمريكي أو غير أمريكي على بغداد، كما ترفض العبث بالثروات، وأهم من ذلك أن يعلن الذين مثلوا المعارضة العراقية في الخارج والذين جسدوها في الداخل أن أمريكا حين زعمت أنها تسعى لتحرير هذا الشعب العربي المسلم أو ذاك من حاكمه المستبد وتهيئة أجواء الحرية والديمقراطية؛ لينعم فيها عيشًا وأمنًا، أو القضاء على الإرهاب أو أسلحة الإبادة، إنما كانت تُحاول خداع الشعوب وتبرير الغزو، حتى إذا تمكنت من الأرض والرقاب والثروات، لجأت إلى المماطلة مع استخدام سلاح القهر للترويع والترهيب، وترسيخ أقدام الاستعمار الجديد.
• أن تُعلن المقاومة الفلسطينية أنها ماضية على طريق التصدي لإجرام وغدر العدو الصهيوني؛ دفاعًا عن الأرض والعرض، وحفاظًا على القدس والأقصى، وتأكيدًا لحقها في الدفاع عن نفسها، رغم الإجرام الصهيوني، والسلاح الأمريكي الذي يتدفق بلا حدود للصهاينة؛ ليمارسوا به أبشع المجازر والجرائم في حق الشعب الفلسطيني الأعزل.
• وعلى ساحة العالم العربي والإسلامي الممتد من المحيط إلى المحيط، أعلنت الشعوب أنها مع حق الشعب الفلسطينيي في أرضه ودياره وحريته وأمنه، ومع الشعب العراقي وحقه في اختيار مسئوليه وحكامه ورفضه ومقاومته للغزو الأمريكي، ومع الشعب الأفغاني في انتفاضته ضد الاحتلال الأمريكي وتدميره لقراه ومدنه.
**واقع الحال في الأمة
واقع الحال يقول ويؤكد أن الأمة على مستوى شعوبها وأقطارها، ما زالت رغم ما حل بها من قهر، ورغم ما حيل بينها وبين إدراكها لقافلة العلم والتقدم في ظل استبداد ومصادرة الحريات والأمن وتسخير وتسليط العديد من أجهزة الأمن؛ لإشاعة الرهبة والخوف والقلق ودفع الإنسان إلى الانزواء، في مصادرة سافرة لحق الشعوب في إبداء الرأي ومشاركتها في إصدار القرار وحق اختيار ممثليها ومسئوليها، ما زالت لديها دفعة من إسلامها رغم مرور عقود وعقود من الاستبداد والطغيان والتجبر، تدفعها لمقاومة الدخيل ورفض الغزاة اليوم، كما قاومت ورفضت دخلاء وغزاة الأمس والسعي لإجلائهم عن الأرض والديار، مع إيمان بوحدة الصف، وعدم اعتراف بالحدود التي وضعها الاستعمار بالأمس، حين عمد إلى التجزِيء وإقامة الفواصل في محاولة لتقطيع الصلات والروابط، وإيقاد روح الابتعاد والانفصال.
واقع الحال يقول أيضًا إن الأمة تعيش واقعًا مأساويًا يتمثل في استبداد وظلم وقهر داخلي، استنزف كثيرًا من قواها، وأعاق عقود مسيرتها، وساعد ودعم سياسة تشتيتها، وحال ويحول دون وحدتها وتقدمها ونهوضها، وقد أتاح الفرصة والساحة للأمريكيين؛ ليحتلوا قطرين من أقطارها والعمل لتصفية قضية قضاياها، والسعي في الوقت نفسه لاجتياح كافة أقطارها.
إلا أن الأمة على مستوى الشعوب رغم ما عانته على مدى عقود لم تعرف الرضوخ أو الاستسلام، ولم تنصرف عن الوحدة والهوية كوسيلة وسبيل لتحقيق المنعة والعزة والكرامة، كما لم تنصرف عن إعلان غضبتها وانحيازها للشعب الفلسطيني، أو الشعب العراقي أو الشعب الأفغاني وأظهرت سخطها لما يلحق بالشعوب الإسلامية المضطهدة في الشيشان أو كشمير.
إن كافة المخلصين وكافة الشرفاء الذين تنفطر قلوبهم لحال الأمة وواقعها ولما لحق بأقطار من أقطارها من اجتياح وغزو وتدمير واغتصاب للموارد والثروات مع مصادرة حق شعوبها في الأمن والحرية والعزة والكرامة، يرون عن إيمان ويعرفون عن تجربة، ويدركون من خلال الوقائع والحقائق، أن الأمر من أجل مواجهة جادة هي وحدها التي تضمن النجاة للشعوب والحكام بات يفرض ويحتم، أن يعاد ترتيب البيت العربي والإسلامي، وأن تكف النظم الحاكمة عن تهميش الشعوب، مع رفع المظالم والتأكيد على العدل والإنصاف، والالتزام بالقانون والمساواة، والنزول على حق الشعوب في الحرية والأمن واختيارها نوابها وحكامها، من خلال انتخابات نزيهة، وتصحيح وظيفة أجهزة الأمن والجيوش؛ لتمارس أدوارها الصحيحة في حفظ أمن الشعوب والدفاع عن استقلال الأوطان والتصدي للعدوان مع اعتماد مناهج وبرامج جادة وموضوعية للتعليم والثقافة تؤكد على هوية وأصالة وقيم الأمة، ومعاني ومعالم العزة والكرامة بين أبنائها، تدفع للتقدم والتفوق وترسخ قيم الأمانة والنزاهة ونظافة اليد واللسان في تعاملاتها؛ اجتثاثًا لجذور الفساد، وحفاظًا على الثروات والموارد.
إن الأمر الذي يدعو للأسى والأسف أن حكام الأمة – وهي تمر في أخطر فترات تاريخها والخطر الداهم يهدد مصيرهم ومصير أوطانهم وشعوبهم، لم يخطو خطوة واحدة على صعيد إصلاح وإعادة ترتيب البيت، فالحريات ما زالت مُصادرة، وأجهزة الأمن ما زالت تزاول دور البطش والترهيب والترغيب، وأسباب ومظاهر الفساد ما زالت مستشرية، وقهر الشعوب ما زال يحول دون حركتها في الاتجاه والوجهة الصحيحة والقوانين الاستثنائية ما زالت تحاصر الشرفاء والمخلصين، وجموع المعارضين في الخارج ما زالوا يبحثون عن ملجأ أو مطعم يتعرضون للفتنة، كما يتعرضون لآثار وتأثير الهجمة الأمريكية على بلادهم.
كما أن حملات الهجوم تشن على الجامعة العربية، وهي كيان إقليمي عربي حرمته حكوماتنا لسنوات طوال من آليات الفعل والحركة والأثر والتأثير، وتحمله حملات الهجوم الإعلامي اليوم نتائج وآثار سياسات الحكومات، وليس ثمة توجه على صعيد الحكام يسعى لتصحيح مسار الجامعة، وتفعيل دورها، وتغيير ميثاقها بما يوفر لها الآليات والإمكانات التي تؤكد دورها المأمول والمطلوب، خاصة على صعيد الدفاع المشترك والسوق المشتركة والوحدة الاقتصادية بين دولها، ويصب في حصيلة قوتها من أجل إفشال كافة المشروعات الأمريكية الصهيونية كالشرق أوسطية أو كافة المشروعات الأمريكية التي تسعى لتفتيت وتجزيء الأمة وتعمل على ابتلاع أقطارها، وتهيء الفرصة لتفوق الكيان الصهيوني ومشروعه الصهيوني في قلب ديارنا، وما يقال عن الجامعة العربية يقال عن المؤتمر الإسلامي، هيكل بلا آليات أو فاعليات، أو إمكانات، في مواجهة أعداء يتناوشون الأمة من كل صوب.
إن الشعوب أثبتت وتثبت رغم ما حل ويحل بها وما حاصرها ويحاصرها ويكاد يشل حركتها، أنها مع الوحدة، وضد الهجمة الأمريكية، وضد الوجود الصهيوني على أرضنا وفي قلب وطننا، وأنها على استعداد للبذل والتضحية من أجل قضايا الحرية والأمن والاستقلال.
إلا أن الشعوب تمد يدها لحكامها، لردم الجفوة وتوثيق العلاقات في مواجهة خطر يهدد وجود الجميع، والحكام حتى اللحظة لا يمدون الأيدي؛ لتؤكد على وحدة الصف، في مواجهة الخطر الذي حل بالديار اليوم، ويسعى للحلول بباقي الديار في الغد.
الشعوب أكدت وتؤكد في كافة العواصم، وفي بغداد التي تم اجتياحها، وكابول التي تم احتلالها، وفي القرى والمدن الفلسطينية رغم تجبر وطغيان الصهاينة والدعم الأمريكي لهم، أنها مع الجهاد سبيلاً لتحرير الأرض والإنسان، وأن هذا لا يتأتى، ولا يتحقق إلا بالعودة المبصرة للإسلام، عقيدة تَمْلأ القلوب إيمانًا، وفهمًا يملأ الأذهان والعقول إدراكًا وتبصيرًا ويتجسد على أرض الواقع عملاً وتضحية وبذلاً، وخلقًا وقيمًا ومثلاً، في إصرار على الحرية والأمن والعزة والكرامة للخروج من الواقع المأساوي لآفاق الحياة الكريمة العزيزة، وفي الأذهان والقلوب يتردد قول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران:103)
إنها فرصة الحكام لطي صفحة الماضي، وفتح صفحة جديدة على الحب في الله والأخوة فيه والعمل بكتابه والمضي في الطريق الذي سلكه السلف الصالح من هذه الأمة الذي اعتمد العدل والمساواة والأمانة والنزاهة، ورفض الضيم أو الاستسلام، وحرص وحافظ على وحدة الصف والكلمة، فينزل فيه قول الله تعالى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ (آل عمران: من الآية110) وتكأكأت عليهم قوى البغي فما ضعفوا وما استكانوا فكانوا ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ*فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ (آل عمران:174)
نعم إنها فرصة أمام الحكام؛ ليجيبوا بالإيجاب والقول والعمل شعوبهم، وهي تتساءل على الساحة الممتدة من المحيط إلى المحيط: لماذا لا يستجيب حكامنا لصوت الحق والمنطق والمصلحة والضمير في فترة من أخطر وأصعب الفترات في تاريخ الأمة
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.